من المسلّم به أن المسجد الكبير في قرطبة هو من أفضل روائع العمارة
الإسلامية، ويعتبره جمهرة المتخصصين أحد النماذج الأصلية للمسجد المسقوف
المرتكز على أعمدة، والممتد مساحات واسعة تتسع للمجتمع بأسره، وذلك بتكرار
الدعامة الواحدة ـ التي هي الحالة، العمود وأقواسه ـ بطريقة مرنة يمكن
تعديلها لتلائم الزيادة والنقصان أو في أعداد المؤمنين. كذلك، فإن من
الصواب القول، بصورة بسيطة وأولية، إن مسجد قرطبة مخطط ومصمم على أسس
مشابهة لتلك الأسس التي أقيم عليها مسجد القيروان في تونس، والأزهر ومسجد
عمرو في القاهرة، ومسجد الرسول في المدينة، والمسجد الأقصى في القدس، وبطرق
مختلفة بعض الشيء، المساجد الضخمة المبنية من الطوب في مدينة سامراء
العراقية ومسجد ابن طولون في القاهرة. لقد بنيت جميع هذه المساجد قبل بناء
مسجد قرطبة، أو في وقت واحد تقريباً من المرحلة الأخيرة من بنائه في القرن
الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. وبعد هذه الفترة، استمر تشييد آلاف
المساجد، وبخاصة في المغرب الإسلامي، طبقاً لهذا الطراز التراثي.
ولكن
النظر إلى مسجد قرطبة على أنه ليس سوى مجرد مثال آخر لطراز واسع الشهرة من
المساجد يعكس خطأ في فهم السمات الخاصة بهذا البناء. وكما بين العديد من
المعماريين ونقاد العمارة المعاصرين، فإن هذا البناء يجمع عدداً من الصفات
المدهشة: تناسق بديع بين أجزاء العناصر مثل الأعمدة الرفيعة والأقواس التي
على شكل الحدوة، والتي ليست أصيلة بذاتها. إنه هندسة في الأعمدة التي تشيع
شعوراً بالاطمئنان بدلاً من الشعور بالتوتر من جراء الإحساس بأنها حاملة
للقوى الدافعة، وتوازن بين الدعامات الفردية والتجمعات المعمارية الأساسية
مثل أروقة المسجد الداخلية. ويظهر أحياناً، التقسيم المقصود لأشكال معمارية
أساسية كتقسيم الأقواس إلى وحدات يمكن إعادة تركيبها بطرق مختلفة،
وأخيراً، هناك المحراب المذهل والقباب الثلاث الموجودة أمامه. إنها مجموعة
تتلألأ بفسيفساء مترفة لأشكال نباتية مركبة ولعبارات طويلة مكتوبة، ومع
ذلك، فإن الفسيفساء تستقر غامضة في تجويف المحراب العميق، الذي يشبه غرفة
فارغة، أو بوابة تقود إلى عالم غير عالم الإنسان
ويمكن
تفسير بعض هذه الملامح، مثل منطقة المحراب ذات التكلفة العالية أو ما في
الفسيفساء من تشكيل فني، بأنها نتيجة ظروف محلية خاصة: أي العلاقات
السياسية والثقافية مع العالم البيزنطي التي تفسر حقيقة وجود الفسيفساء
ووجود شعائر أكثر تعقيداً مما هو معتاد بشأن الصلوات اليومية المفروضة على
جميع المسلمين. ففي قرطبة كان المؤذن يذهب إلى المحراب ويصلي هناك قبل
الآذان، ولعل ذلك كان تقليداً للشعائر الدينية المسيحية. وكان المسجد يحتوي
على مصحف ضخم يتطلب رَجُلين لحمله، ومن ضمنه أربع صحفات من مصحف منسوب إلى
الخليفة عثمان، والذي يعتقد أنه اغتيل خلال قراءته القرآن، وتوجد بالفعل
قطرات دم على هذه الصفحات التي أصبح من الواضح أنها رمز لشيء يفوق كثيراً
في أهميته صفحات من النصوص. وفي وقت الصلاة، كان يطاف بالمصحف على المصلين،
يتقدمه سادن يحمل شمعة، على غرار ما يجري من حمل الأناجيل في الكنيسة.
ولكن
بالإضافة إلى هذه التفصيلات المحددة، والتي هي أصيلة في مسجد قرطبة ولكنها
لا تختلف من ناحية النوعية عن أشياء مرتبطة بمساجد أخرى، هناك ميزتان
تفرقان مسجد قرطبة عن غالبية مساجد العالم الإسلامي الجامعة. إحدى هاتين
الميزتين أنه حوفظ على الكثير من هذا المسجد وسجل الكثير عنه، حتى من
مؤرخين وجغرافيين كتبوا في فترة لاحقة بعد أن استولى المسيحيون على
الميدنة. وكأنما الذاكرة الجماعية الإسلامية ـ ولعل الذاكرة المسيحية أيضاً
ـ سلَّمت، من خلال الحفاظ عليه، بوجود شيء فريد في هذا المعلم القرطبي.
والميزة الثانية هي التوافق في غايات البناء الجمالية، أي في خلق المؤثرات
البصرية ذات الوقع الحسي الذي يشيع البهجة في نفوس الزائرين أو أولئك الذين
يستعملونه. وقليلة هي المساجد المصممة بطريقة يتوافق كل ما فيها مع
المنشآت التي شيدت في أوائل القرن الثالث للهجرة/ التاسع للميلاد، بما في
ذلك الإضافات التي شيدت فيما بعد، كالكنيسة وأماكن صلاة النصارى (ويشكل
جامع ابن طولون في القاهرة استثناء رئيساً لذلك). إن الاهتمام بالتأثير
الحسي والجمالي المرئي هو علامة فارقة لمسجد قرطبة، فهو أكثر تماثلاً،
وأكثر رسوخاً، وأكثر جاذبية من غالبية المساجد الجامعة في التراث الإسلامي
في العصور الوسطى.
ومن
الأمور التي تعتبر أكثر غرابة وجود تلك العلب العاجية العائدة إلى القرن
الرابع الهجري/ العاشر الميلادي وأوائل القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر
الميلادي، التي بقي منها نحو عشرين قطعة. ولعل بعض المواد النفيسة،
كالمناديل والمراهم المنوعة، كانت تودع فيها. وقد أُرِّخ الكثير من هذه
القطع وجرى حصرها إما في قرطبة أو في الزهراء، المدينة الملكية التي لا
تبعد سوى بضعة أميال عن مركز قرطبة. وتعرِّف الكتابات الموجودة على معظم
هذه القطع أصحابَها بأنهم أعضاء في الأسرة الحاكمة، أو مسؤولون كبار في
الدولة الأموية. إنه ليس بالأمر المستغرب وجود قطع ثمينة، مصنوعة من مواد
نادرة، لأعضاء الطبقة الحاكمة في العالم الإسلامي. فالمصادر التاريخية
وغيرها من المراجع المخطوطة زاخرة بإشارات إلى ملابس وأشياء فاخرة تحيط
بالأمراء والأرستقراطيين من مختلف الفئات في بغداد أو نيسابور أو القاهرة
أو هرات أو بخارى. ولكن لم يبق من هذه الكنوز إلا ما ندر. وإحدى وسائل
تفسير هذه العاجيات الإسبانية هي تقديمها على أنها أشياء فاخرة جرى الحفاظ
عليها بالمصادفة، وقد تكون مثيلات لها موجودة كذلك في أماكن أخرى. ويرجع
الاحتمال بأن هذه القطع قد أعيد استعمالها بصفتها من كنوز الكنائس، الأمر
الذي أنقذها من التلف، أو من استعمالها وتداولها على مدى العصور إلى أن
تهترئ بالكامل.
ولعل
ذلك هو الاستنتاج الصحيح ـ إلى حد معين ـ الذي ترتسم معالمه أمامنا. فهذه
العاجيات تعود، في الواقع، لأسر أرستقراطية وتُظهر ما في البلاط الأموي في
الأندلس من غنى وذوق. ولكن هناك أسباباً عدة تدعو إلى التساؤل: ألسنا نحن
أيضاً نتداول مجموعة فريدة بعض الشيء من القطع التي تعكس ظواهر محلية
فريدة؟ وسأقتصر على ذكر خاصيتين لهذه العاجيات يستعصي تفسيرهما ـ على الأقل
من خلال قدراتنا العلمية الحالية ـ نطاق الحضارة الإسلامية الواسعة.
الأولى هي أن قطع هذه المجموعة، مثل علبة الحلي الأسطوانية (357 ـ 358 هـ/
967م) المحفوظة باللوفر، والقطعة الموجودة في متحف فكتوريا وألبرت (359 ـ
360 هـ/ 969 ـ 970 م) والقطعة غير المؤرخة الموجودة في المتحف الوطني
(ميوزيو ناسيونال) في فلورنس، جميعها محفورة بعمق، بحيث إن ما فيها من زخف
يبدو ذا بروز ناتئ جدّاً. وهو كبير الشبه بالنحت الموجود على التوابيت
الحجرية العائدة إلى الفترة الرومانية المتأخرة والفترة المسيحية الأولى.
إن هذا التأثير النحتي، وبخاصة في قطعة اللوفر، قد أنجز بطريقة تكاد تبدو
فيها الأشخاص والحيوانات والنباتات كأنها تماثيل قائمة بذاتها ويمكن رؤيتها
من جميع الجوانب. إن شيئاً من هذا القبيل غير معروف في أي مكان آخر، سواء
في ما يتعلق بالفنون الإسلامية أو بالفن المسيحي ذاته في العصور الوسطى
الأولى. ويحتمل أن تكون بعض النماذج القديمة أثرت في نفس من صُنعت تلك
القطع لأجله، أو في نفوس صانعيها. ولكن يصعب تصور الطريقة التي أدت إلى هذا
التأثير أو إدراك وسيلة الحصور عليه.
وأما
الخاصية الثانية لبعض هذه العاجيات فهي أكثر إثارة للحيرة. فالنماذج
المحفوظة في متحف فكتوريا وألبرت، والنماذج الأخرى الموجودة في خزينة
كاتدرائية بنبلونة، والنموذج الموجود في برغش، جميعها مزخرفة بأشكال أشخاص
وحيوانات مرتبة إما بشكل منظم ومتناظر، كما هو الحال غالباً في المنسوجات،
أو غير ذلك، من مناظر يتضح أنها قصصية أو رمزية: مثل أمير جالس على عرشه،
وهو يصارع، ويصيد، ويخطف بيضاً من عش، ويركب فيلة، أو يقطف بلحاً، وما إلى
ذلك. وإن ما يلفت الأنظار في أول الأمر هو أن هذه المشاهد التي تحوي أشكال
في سياق قصصي قد وجدت في إسبانية قبل حوالي قرن ونصف من انتشارها في مصر
وباقي العالم الإسلامي. ولكن ما هو أكثر لفتاً للأنظار أنه بينما كانت
النماذج قد شاعت شيوعاً ملحوظاً في النهاية في الفن الإسلامي، فإن غالبيتها
فريدة في نوعها. لذلك، فإننا نواجه تناقضاً عجيباً، فنحن أمام صور نستطيع
وصفها بسهولة، ولكننا لا نستطيع إيجاد تفسير لها.
إننا
في هذه المرحلة لا نستطيع إلا أن نتكهن بشأن الأسباب الكامنة وراء هذه
الخصائص للعاجيات الإسبانية الإسلامية العائدة للفترة الأموية. فلعله أريد
لهذه القطع، أن تعكس في ذروة القوة والغنى الأمويين، الأعماق الثقافية
والفنية النادرة للبلاط الأموي الذي تمت في رحابه بواعث جديدة أسبغت مظاهر
العراقة، ذات النمط الكلاسكي، على المواد الثمينة المستوردة من افريقية،
وبعد هذه الفترة بمئة سنة أو أكثر، زينت تحت حكم ملك مسيحي أشكال إسلامية
محضة سقف المصلى الملكي للقصر النورمندي في مدينة بالرمو في صقلية. إن هذا
المثال الأخير قد يوحي بتكون خليط ثقافي في غرب البحر الأبيض المتوسط مختلف
عن ذلك الموجود في الشرق منه. كما أن هناك نقطتين ثانويتين تؤكدان الإحساس
بالاختلاف في فنون إسبانيا الإسلامية في عهدها المبكر، وهو أعظم عهودها
شأناً. فقد حفظت أسماء الفنانين والحرفيين المنتجين للقطع الفنية والزخرفة
المعمارية في إسبانية قبل أي منطقة أخرى من العالم الإسلامي وقد تكرر ذلك
كثيراً قياساً بمناطق أخرى من العالم الإسلامي، وكأنما كانت مرتبة الحرفيين
هناك أعز مكاناً. هذا، ومن الجدير بالذكر، وضوح رعاية النساء لمثل هذه
القطع، وهي أيضاً ظاهرة كانت نادرة في مناطق أخرى في ذلك الحين. فقد صيغت
أقدم قطعتين عاجيتين مؤرختين لبنات عبد الرحمن الثالث، وصنعت بعد ذلك إحدى
القطع الباقية للأميرة صبح.
أما
المثل الثالث فهو أكثر معالم الفن الإسلامي شهرة في إسبانيا: إنه قصر
الحمراء. مع أنه ليس هنا المكان المناسب لمناقشة التركيب الأثري لهذا القصر
أو ملامحه الأخاذة التي تجذب الملايين من السياح سنوياً، فإن الذي أحاول
أن أبرزه في هذه المقالة هو أن هذا البناء نسيج وحده في العمارة الإسلامية،
مع أن الجميع، من الأكادميين الذين كتبوا عنه، إلى مخرجي الأفلام
السينمائية في هوليود، إلى العرب الخلجيين الأغنياء الذين نسخوه وقلدوه، أو
اقتبسوا بعض أجزائه آلاف المرات، يعتبرون الحمراء المثال الحي للثقافة
الإسلامية إلى حد أن المخيلة الشعبية والعالية الثقافة على السواء، نسجتا
خيالاتهما الاستشراقية حوله منذ أوائل القرن التاسع عشر. لكن من المستغرب
أنه لا يوجد بناء، أو جزء من بناء معروف، يشبه قصر الحمراء، باستثناء بعض
الأبنية المقلدة شيدت في ما بعد في المغرب بالذات. ويتطلب الأمر الإمعان في
التخيل لرؤية ما يتجاوز بعض التشابه العابر بين رائعة الحمراء والتوب كابي
في اسطنبول، وهو قصر السلاطين العثمانيين، أو القصور الصفوية التي بنيت في
ما بعد في أصفهان، أو القصور المغولية في الهند. إن ما لدينا من معلومات
عن القصور القديمة والمعاصرة الموجودة حول البحر الأبيض المتوسط ضئيلة،
ولكن المعلومات المتوافرة عن قلعة القاهرة في ذروة الحكم المملوكي ـ مثلاً ـ
لا تربط بين هذه القلعة وقصر الحمراء سوى بأقل القليل. ولعله من المحتمل
هنا أن سلالة إسلامية كانت في طريقها إلى الاحتضار في الأندلس لم تبتدع
قصراً "نموذجياً" ينتمي إلى مجموعة اختفت في أماكن أخرى، وإنما أنشأت قصراً
يتلائم مع تاريخها المتفرد الخاص، ويتكيف مع حاجتها وتطلعاتها الخاصة.